التشبيك والتعاون كشرط لازم وغير كاف لمجتمع مدني سوري قادر على قيادة التحول الديمقراطي

نورس العبد الله- مسؤول بناء القدرات في بيتنا


تاريخ النشر 2024-03-15

عدد المشاهدات 104

أقل من دقيقة للقراءة

التشبيك والتعاون كشرط لازم وغير كاف لمجتمع مدني سوري قادر على قيادة التحول الديمقراطي

التشبيك والتعاون كشرط لازم وغير كاف لمجتمع مدني سوري قادر على قيادة التحول الديمقراطي 

 

اعداد: نورس العبد الله: باحث في العلوم الإنسانية -مسؤول بناء القدرات في بيتنا

منذ ثلاثة عشر عام اندلعت الثورة السورية حاملةً في طياتها قيماً ومبادئ أساسية لا خلاف أبداً بين حاضنتها الشعبية بأنها تتلخص بالتطلع للحرية والكرامة ودولة المؤسسات كتعبير عن مجمل تطلعات الشعب السوري وكامتداد لموجة الربيع العربي، والذي نظر إليه على نطاق واسع - في بدايته على الأقل- بوصفه الموجة الديمقراطية الرابعة، وذلك في منطقة شديدة الحساسية والأهمية جيوسياسياً واقتصادياً وأمنياً على مستوى العالم. 

خلال هذه السنوات نهض المجتمع المدني السوري -بمعناه الواسع- بمختلف تنظيماته وأشكاله وتكويناته بعد سنوات طويلة من التصحر في سوريا في ظل نظام أمني وشمولي احتكر الشأن العام، وفتت بنى المجتمع وزرع الشك بين مكوناته بأدوات عديدة. ومع إشكاليات "السلطات البديلة" من حيث الشرعية والمشروعية معاً؛ بدى وكأن هذا المجتمع المدني الوليد مؤهل لقيادة التحول الديمقراطي، أو لعب دور فاعل على أقل تقدير على غرار تجارب دولية أخرى في شرق أوربا وأمريكا اللاتينية مع اختلاف السياقات المحلية والإقليمية والظروف الدولية بكل تأكيد.

في هذا الصدد يمكن المجادلة من حيث المبدأ بجدوى المراهنة على فاعلية المجتمع المدني السوري تبعاً لعوامل موضوعية عديدة منها: الكفاءات والمهارات، الامتداد داخل وخارج سوريا، العلاقات الواسعة دولياً، والتنوع في الأشكال والأفكار والتخصصات. إلا أن عوامل عديدة حوَّل هذه الميزة الأخيرة إلى تحدٍ وأحالها من فرصة إلى خطر، فأصبح التنافس والاستقطاب الحاد سمة رئيسية، دون إغفال وجود جهود عديدة وتجارب ناجحة.

بناءً عليه، فإن التساؤل الهام مع القيام بمراجعات عديدة في الذكرى السنوية الثالثة عشر للثورة السورية يدور حول أثر التشبيك والتعاون بين تنظيمات المجتمع المدني السوري على قدرته لقيادة التحول الديمقراطي؟ وماهية الآليات التي تسمح بتحقيقه بمقاربة واقعية تتجنب المثالية والعدمية على حد سواء؟

بدايةً، يمكن القول بأن التشبيك والتعاون يتجاوز في السياقات المعقدة كالحالة السورية عن كونه مجرد فضيلة ذات منافع متبادلة للأطراف إلى واجب وشرط أساسي من أجل الوفاء لقيم الثورة السورية، وللدلالة على ذلك يمكن استحضار ثلاث ملفات رئيسية تشكل عموداً فقرياً للتغييرات الكبرى في سوريا وكل واحدة منها رهينة بتعاون المجتمع المدني.

الملف الأول هو الملف الحقوقي، والذي يرتبط بسلسلة واسعة من الجهود تبدأ من رصد وتوثيق انتهاكات القانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الانسان التي تعرض لها الشعب السوري، مروراً بإعمال المساءلة لمرتكبي الانتهاكات وصولاً لجهود المناصرة وإبقاء ملف العدالة حاضراً. وهي المهام التي يرتبط النجاح فيها بشكل كبير بقدرة المجتمع المدني على بناء تحالفات قوية ومؤثرة والاعتماد على الضغط الجماعي والمستمر لمنع طي الملفات الحقوقية وتجاوزها بذريعة "الواقعية السياسية"، وهذا ما كان صراعاً حاضراً بين المجتمع المدني من جهة والأطراف السياسية من جهة أخرى في الكثير من تجارب التحول الديمقراطي كحالة الأرجنتين في ثمانينيات القرن العشرين وصولاً لتونس إثر الربيع العربي.

أما الملف الثاني، وهو التأسيس لعقد اجتماعي، والذي يرتبط بمنظور السوسيولوجيا السياسية بحركة المجتمع وعلاقات أطرافه، وهنا يبرز دور المجتمع المدني بوصفه مؤثر ومقياس لهذه الحيوية، وبناءً عليه، فإن ما يمر به السوريون/ات من حالة اضطراب في أحسن الأحوال لجهة إنتاج عقد اجتماعي سوري حقيقي - بعد سنوات من العقد القهري إن صح التعبير - يرسخ لمواطنة وهوية وانتماء يتطلب  في مكان ما وجود توافقات كبرى  على الأقل في أوساطه الثقافية والمدنية، بما يشكل حاملاً لهذا المشروع، الأمر الذي يحيل بدوره إلى حتمية التشبيك والتعاون بين هيئات المجتمع المدني السوري بدلاً من التقوقع على الذات أو العدائية في كثير من الأحيان والتي تمنع التأسيس لقضايا كبرى.

وقد شهد التاريخ في تجارب عديدة على محورية دور المجتمع المدني في هذا السياق؛ من أبرزها حالة الهوية البريطانية التي نضجت في أحد جوانبها بفعل المجتمع المدني كمحدد داخلي عبر السنوات الطويلة، ولذلك يعتبر على نطاق واسع في الأدبيات المختلفة أن الأمة البريطانية منبثقة من المجتمع المدني وهو ما ميزها بخاصية التسامح والتعددية في إطار جامع.

الملف الثالث، هو القدرة على الصمود ومقاومة الفناء بمعناه المعنوي قبل المادي، بمعنى آخر إبقاء الروابط الشعورية حية بين السوريين/ات بعد الهزات العنيفة المتلاحقة، بما يمكن اعتباره رأس مال اجتماعي سوري، وهو ما يرتبط بدوره بالمجتمع المدني وما تنتجه من مشاركة مدنية وعلاقات وقيم وهو ما يشكل لدى الكثير من فلاسفة الاجتماع  ومنهم العالم الأمريكي بونتام جوهراً للتضامن الاجتماعي، وبالتالي فإن العلاقات البينة بين تنظيمات المجتمع المدني قادرة على كسر خطوط النزاع وحدود الواقع وهو ما يتطلب بدوره تشبيك وتعاون، بعيداً  عن التماهي مع التقسيمات في الداخل والخارج.

من جانبٍ آخر، ومع اتفاق الغالبية من حيث الشكل على الأقل مع ما سبق ذكره، ثمة حاجة رئيسية للحديث عن الآليات، بمعنى آخر كيف يمكن للمجتمع المدني السوري أن يغير من السمات العامة السابقة أي الانقسام والاستقطاب والتقوقع إلى أنماط جديدة عنوانها التعاون الذي ينتج توافقات كبرى مع الحفاظ على التنوع والحق في التفكير والتشكيل والتعبير عن الطيف السوري.

في هذا الصدد ثمة مجموعة من الخطوات المعروفة أصلاً على نطاق واسع وتمثل إجراءات عملية لا خلاف على أهميتها، كبناء التحالفات، وعقد الشراكات وتنظيم الفعاليات المشتركة وايلاء اهتمام بالعلاقات الجماعية وصولاً لتبادل المعارف والخبرات.. إلخ، إلا أن التحدي الأكبر يقف في خطوة إلى الخلف إن صح التعبير والتي تتمثل بالحاجة لوجود دنميات تفكير ترتبط بالثقافة وتحدد السلوك. وهنا يمكن استحضار آليتين عمليتين تسمحان في وجود التشبيك والتعاون وتحقيقه عبر أشكال مختلفة؛ وهما: الثقة البينية وإدارة الاختلاف.

يقصد بالثقة في الادبيات المختلفة " توقّع متفائل واطمئنان نحو كفاءة وإخلاص الآخرين أفراداً ومؤسسات" وهي ركيزة أساسية للتضامن ومن ثم التعاون، وبهذا المعنى فإن وجود ثقة متبادلة بين تنظيمات المجتمع المدني السوري لجهة التغيير في سوريا والمعركة ضد الاستبداد عامل تأسيسي مهم يسمح بالبناء عليه، ويتحمل الجميع مسؤولية العمل على إيجاده ليغدو ثقة متبادلة.

بالانتقال إلى العامل الثاني، وهو إدارة الاختلاف والذي يأتي بأبسط صوره كنقيض للعقلية الأحادية التي تحتكر في مضمونها معاني الثورة والوطنية والحقيقة.. إلخ، وتنطلق من تصورات الحق المطلق، وتؤدي لتقديس الذات ومن ثم المنظومة أو التيار، وهو ما يؤدي للقضاء على متطلبات الحوار في مهدها وإمكانية الاستعداد له، والحوار بالتأكيد هو الحتمية التي تسمح بفهم الآخر وبناء الثقة ومن ثم التشبيك والتعاون فالتوافقات الكبرى.

ختاماً، وعلى الرغم من أهمية ماسبق ذكره من كون التشبيك والتعاون بين تنظيمات المجتمع المدني السوري يعد شرطاً رئيسياً لقيادة التغيير الديمقراطي في سوريا، إلا أنه وبنظرة واقعية تراعي مختلف العوامل وطنياً وإقليمياً ودولياً لا تعد بحد ذاتها شرطاً وحيداً وضامناً للتغيير المنشود، فلا بد من توافر عوامل وظروف سياسية واجتماعية أخرى. وبطبيعة الحال، في قسمٍ منها، تقع خارج متناول السوريين/ات ككل، لكن تعطينا دورس التاريخ دلالة هامة على أن إرادة الشعوب تنتصر في نهاية المطاف وأن ربيعها يزهر متى ما انصرفت لمعركة الاستبداد بدلاً من معارك بينية هامشية. 

مساحة إعلانية